أنا طالب مرحلة
سادسة واخيرة في كلية الطب، من المفروض الان
انني طبيب مقيم في مستشفيات بلدي. أحب ديني و وطني وأهلي.
اتذكر جليا كيف
قضينا الست سنوات في اعرق و اصعب الكليات في العراق، واتذكر جليا كيف كنت اعبر الشوارع
و لا انظر الى يميني و شمالي حتى لا تصدمني السيارات،إنما كنت انظر على خطوات اقدامي!
أنظر أسفلي حتى
لا أضغط برجلي على عبوة ناسفة او جسم غريب لكي انتقل الى عالم اخر!
اكملت امتحانين
من اصل ثمانية امتحانات اخيرة وحاسمة لنيلي شهادة البكلوريوس في كلية الطب.
ثم في ليلة وضحاها،
توقف كل شيء!
وكان هذا الزمن
متوقف منذ احداث حزيران الى تشرين الاول
لم يكن يتحرك فيه
غير الاشاعات و التعليقات على الفيسبوك؛ و أعصابنا ترقص على وتر التوتر!
لم اقض هذه المدة
الا في البيت وأأكل في نفسي واعصابي بسبب مصيري و ما سيحدث لي، و أفكر ما الذي من الممكن
ان افعله بعد ان اتخذ الكثير من الزملاء طرقا كثيرة و مختلفة لمحاولة كسر طوق العشرة
ايام المتبقية حتى نصبح اطباء لنخدم بلدنا الذي تربينا على أنه واحد، لكني كنت مخطأ
بل ومصدوما لايجاد نفسي انني غريب في بلدي الذي ولدت فيه و ولد فيه أجداد أجدادي.
أنا متأكد أن هناك
اكثر من ٣٠ الف طالب من جامعة الموصل في نفس وضعي، و تلحقهم عائلاتهم المنهكة في العراق
العظيم الذي لم نعش في راحة فيه حتى الان.
تتسارع الدنيا
كأننا في قطار ياباني يمر بسرعة خمسمئة كيلومتر بالساعة!
لا ادري ماذا يحدث!
لا اريد أن أدخل
في حلقة مغلقة من اللوم على أشخاص حرقوا أعصابنا، وتبين أنهم عبارة عن كارتون متظاهر
بسيارات الدفع الرباعي المظللة والحراس الشخصيين وقضاء الاجازات و الايفادات في دول
اوربية، بعد أن كنا نعتبرهم سندنا في هذا الوطن، تبين انهم ليسوا كذلك!
ثم اتى بعض الانفراج،
فقد تم تحديد ايام للامتحانات لطلبة الموصل في جامعة كركوك.
رغم أن الرحلة
صعبة جدا و مليئة بالمخاطر، لكني و زملائي قررنا ان نذهب ونواجه هذه المشقات لعلنا
نمسك بحقنا التائه.
كل يوم من اول
اسبوع من تشرين الاول لسنة ٢٠١٤ كان مرشحا ليوم الانطلاق، إلى ان انطلقنا فجأة بسبب
الاوضاع المتجددة بالدقائق و ليس فقط بالساعات لما يجري و يؤثر على حياتنا في أرض الواقع.
أنطلقنا الى ساحة
سيارات النقل في الساعة السابعة صباحا، فقد اوصلني اليها أبي و لم يتركني الى ان خرجنا.
أتذكر نفسية السائق
المتعصبة الغير متفاهمة، لكننا قررنا ان نصمت و نتجنب المشاكل.
خرجنا من جنوب
الموصل لنعبر الشرقاط ثم الحويجة ، حيث عبرنا فوق دجلة الخالد، بمسافة قرابة الثلاث
ساعات.
لم نواجه مشاكل
و لا اي توقفات خلال هذه المسافة.
ضحكنا و تحادثنا أنا و زميليي، أنور و علي.
الى ان وصلنا الى
منطقة لا يوجد فيها غير الصحراء و سيارات النقل المكتضة و اعداد الناس الهائلة، على
الاغلب أنهم خرجوا لنفس غايتي.
يتوجب علينا ان
نستقل سيارة أجرة أخرى لننتقل لمنطقة اخرى لا تختلف عن سابقتها، ثم نزلنا لنستقل أخرى
حتى وصلنا الى الحاجز الرئيسي المسيطر عليه من قبل جهة أخرى ( في الوطن الذي احلم انه
واحد)
الجميل في الامر
أنني تعرفت في هذه المسافتين القصيرتين نسبيا على شاب أنيق من بغداد يدرس في جامعة
تكريت في المرحلة السادسة من كلية الطب، مثلي تماما, لك تحياتي يا ياسر.
بعد أن وصلنا الى
هذا الحاجز في وسط منطقة ليست عبارة الا عن تراب وساتر طويل كبير من الطراز الامريكي
صدمنا صدمة جعلتني
أتمنى أني لم أقطع كل تلك المسافة!
وجدنا ما يقارب
الخمسة الالاف طالب واقفون في طابور طويل جدا هم وامتعتهم في وسط الشمس!
استسلمنا للامر
الواقع ووقفنا فيه لكي يمشي هذا الطابور بسرعة خمسة أمتار فقط في الساعة!
كانت عوائل كثيرة
جدا تدخل، أغلبهم طالبات قد اصطحبوا أهليهم في هذه المشقة للجري نحو مستقبل مجهول،
وكله من أجل العلم!
الغريب في الامر
أننا وجدنا معنا مئات الناس الغريبي الاطوار.
لا ادري من اين
هم، نساء فتيان رجال، الكل حاملا قناني مادة الغاز الفارغة ويركض بها نحو الساتر ليزاحمنا!
حسب مشاهدتي وحساباتي
فقد وجدنا ان كل طالب علم مننا يفخر به العراق لثقافته يساوي قنينتين غاز فارغة فقط
في بلد النفط!
حيث كلما يتم ادخال
قنينتين في الحاجز، يدخل طالب واحد!
لا ادري لماذا! مقايضة قنينة غاز
مقابل طالب علم! أترك المجال لتحليلاتكم لماذا!
كان كلما يصبح
شغب في هذه الفوضى و تجمهر لهؤلاء الناس، يتم اطلاق النار لابعادهم، ثم يأتون مرة اخرى،
و يتم اطلاق النار مرة اخرى في دائرة مفرغة طوال فترة مكوثنا في هذه البقعة الغير مباركة
ببركة السماء!
احسسنا هناك أننا
لا نساوي شيئا أبدا!
حيث يصيح علينا
رجال الامن الذين لم يتجاوز تعليمهم الكثير حسب ظني أن التزموا في الطابور فوق التراب
و الزبالة!
ألذي المني كثيرا
أنني وجدت أمرأة في الخمسينات من عمرها، هزيلة جدا، تحمل قنينة على كتفها و تركض بها
وطفل اخر لم يتجاوز
العشر سنوات يقوم بدفع عربة تحمل ثلاث قنينات، ثقيلة جدا على كاهله حسب ما أرى، وقس
على هذا المنوال مئات الاطفال والنساء بنفس الخاصية.
بكى قلبي من داخلي
وتمزق لما رأيت، رغم بعض الهمجية الفوضوية فيهم.
اتسخت ثيابي المأنقة
التي تعبت والدتي في تحضيرها في الليلة السابقة في وقت قرار الخروج المفاجئ، أتسخت
بالتراب والزبالة التي كنا نقف عليها.
واخيرا، وبعد اربعة
ساعات من الوقوف في الشمس التي كانت لتحرق بشرتي القوقازية لولا أن وضعت المنشفة على
رأسي وانا اتصبب عرقا (نحمد الله اننا لم نكن في وسط موسم الصيف و
الا كنا على شاكلة أخرى!)
أخيرا وصلنا الى
هذا السور العظيم لندخل تحت ضل الاطلاقات النارية في ممر ضيق جدا يتسع لشخص واحد فقط
للوقوف فوق زبالة أكثر واختناق بالغبار!
المهم دخلنا و
ابرزنا هوياتنا ثم جرى تفتيشنا وامتعتنا في داخل هيكل مليء بالتراب لكي ندخل الى كركوك!
الفرح بالحصول
على شيء بمشقة كبيرة ليس كفرح الحصول عليه بسهولة، وهنا تكمن الاثارة!
شكرنا الله أن
دخلنا و مشينا مسافة اخرى لكي نتجاوز حاجزا كونكريتيا اخر ثم شارع لنجد سيارة اخرى
لتنقلنا الى وسط كركوك العريقة.
قمنا بعملية البحث
على غرفة لقضاء الليل فيها لكن لم نجد اي مكان فارغ.
فقد اصبح ايجار الفنادق ١٥٠ الف دينار للغرفة الواحدة
بعد ان كان لا يتجاوز ال ١٥ الف لليلة الواحدة، لكن المصيبة اننا لم نجد اي فندق، فقد
كانت كلها مزدحمة لدرجة اننا وجدنا اناسا قد افترشوا سطوح هذه الفنادق لحافا! كان هناك استغلالا جليا, خصوصا ان الطلبة و اهاليهم من
الناس ذوي الدخل المحدود, و يعرفون وضع الموصل الاقتصادي الصعب على اهلها.
في ذلك المساء, صديقي أنور وجد لنا مكان في
غرفة صغيرة جدا لنسكن مع أخيه الذي جاء قبلنا ووجد تلك الغرفة
هذه الغرفة لا تصلح للنوم في فندق لا يستحق
أن يقال عنه أنه فندق لصعوبة التنقل فيه او اتساخه او تعاسة معماره او أي شيء آخر,
اضافة الى اننا سمعنا أحاديث على أنه فندق غير جيد خلقيا أيضا!
وضعنا أمتعتنا فيه لكني قلت لاصدقائي لا اطيق
أن ابقى في هذا المكان! دعونا ننزل لنتجول في السوق و نأكل شيئا ليحلها الله بعد
ذلك.
فعلا, بينما كنا نتجول في السوق الرئيس في
كركوك, اتصل بنا صديق اخر أنه تم افتتاح الاقسام الداخلية لجامعة كركوك من أجل
طلبة جامعة الموصل بعد أن توسل بعض الطلاب لكي يشفقوا على حالتهم.
كأن باب الانفراج فتح امامنا لكي ننتقل من
ذلك المكان المزعج الى مكان أفضل.
انطلقنا و نحن قد تركنا امتعتنا في ذلك
الفندق من أجل ان نجد مكان في هذه الاقسام قبل أن تمتلئ, و الحمدلله وجدنا وبقينا
هناك بلا أغراضنا الى اليوم التالي حيث لم يكن يسمح لاي طالب بمغادرة الاقسام بعد
الساعة السابعة مساءا.
و لكن كانت الاقسام جد مكتضة بالطلبة, حيث
يصل عدد الطلبة في غرفة واحدة 11 طالبا!
تعرفنا في هذه الاقسام على انواع الطلبة و
مزاجهم و خصائصم و أخلاقهم.
شاركنا الغرفة مع طلبة من كلية التربية كانوا
من افضل الشباب بالاخلاق و الاحترام.
فمخالطة أنواع الناس تزيد من فراستك, و
تستنتج أن كل الناس لهم مشاعر كمشاعرك و ليست مشاعرك أفضل او "اكثر
شاعرية" من مشاعرهم , حتى لو اختلف اصلهم و فصلهم و طينهم عنك.
هم تؤثر فيهم الاوضاع كما تؤثر فيك, و لديهم
اراء خاصة كما لك انت ارائك الخاصة. و يتألمون و يحزنون كما نتألم ونحزن.
فاستنتجت ان كل الناس سواسية و علي ان اتعلم
احترامهم.
في الايام التالية, دخلنا الى احد المطاعم في وسط كركوك، وتغدينا
انا ورفيقي ( تمن و مرق)، استلطفنا عامل المطعم وهو من سكنة تكريت وخريج كلية الادارة
والاقتصاد وتبادلنا الحديث حيث انه كان نازحا بعد ان تدمر منزل أهله بالكامل في دياره
بسبب العمليات العسكرية، وقد رحب بنا كثيرا و عرض علينا بكرمه الاقامة في منزله
الصغير و المستأجر.
وجدنا الكثير من
اخوتنا في الوطن ممن قلبه سليم ( و هم الاغلبية الكاسحة في وطني و هم الامل) متفهمون
للوضع و معاناتنا و ينصفونا
لكننا واجهنا بعض
ألاشخاص المعدودين الذين أتهمونا أننا نحن المواطنون الاصليون البسطاء من كنا مسؤولون
عما حدث لمدينتنا، بل اتهمونا اننا صفقنا و صفرنا لهذا الشيء!
يا للغرابة، أنا
لم اخرج رأسي خارج منزلي ولم أرفعه عن شاشة كومبيوتري طوال كل هذا الزمان!
أتسائل: هل نحن
في حفل زفاف قبيلة افريقية لها تقاليد غريبة وفوضويةز إن كان نعم، إذا
فلنرقص!
بعد عدة ايام
من الانتظار و الاشاعات التي نخرت بنا و أقلقتنا و نخرت بنا حتى أننا قررنا أن
نرجع, لكننا صبرنا و قررنا أن ننتظر, بدأت امتحاناتنا، وكانت تجربة لها طعم خاص حيث
تم تغيير الجدول ثلاث مرات في وسط بيئة قد اغشت علينا و كأننا حائرون و لا ندري ما
نفعل.
يوم بعد يوم انتظرنا امتحاناتنا الى
انهيناها, و خاصة أننا من المطلوب منا أن نكمل الامتحانات العملية في المستشفيات,
امتحنني اساتذة من كركوك, كانت اسئلتهم صعبة, لكن لا ادري لماذا, لكن أغلبنا
اجابها بالرغم أن دراستنا لم تكن بمستوى تلك الاسئلة لصعوبة و ضيق الوقت للدراسة
في ذلك الوضع, على الاغلب لان كليتنا أعددتنا على منوال الاسئلة الصعبة و الامتحانات
الصعبة حتى نتخرج أطباء ناجحون و قد مرّ علينا كل شيء تقريبا.
كان صديقي غسان قد تأخر عننا يوم من الانطلاق
الى كركوك الى الامتحان, ثم اصدر قرار بمنع الطلبة من الذهاب الى كركوك, صديقي ذهب
و رجع كل هذه المسافة لثلاث مرات الى ان استطاع الدخول, لكن قد ضاع عليه امتحان
واحد, مما سبب له و لنا توتر نفسي و نحن نذهب هنا و هناك ونطرق ابواب هذا و هذا
لكي يقوموا بامتحانه وذلك لصعوبة الرجوع هنا مرة اخرى, لكن الكثير اخلى الامر من
مسؤوليته الى ان رجع معنا الى الموصل و بقى له امتحان واحد على امل ان يؤديه في
الدور الثاني الذي سيعلن عنه لاحقا, بحجة القانون! اتمنى له ان يؤدي امتحانه هذا
بلا صعوبة وانما بيسر و تساهيل.
في اخر الايام, افرغت الاقسام كلها تقريبا من
الطلاب بعد ان تركوها لانهم انهوا امتحاناتهم.
أصبحت فارغة و هادئة للتأمل و الكتابة. كانت
حدائق القسم جميلة وواسعة لهذا الغرض.
قررنا أن نرجع الى مدينتنا بعد يوم من اخر
امتحان, فانطلقنا في اليوم التالي من الساعة السادسة صباحا, وصلنا الساتر ثم عبرنا
مسافة الكيلومتر على الاقدام.
وجدنا الكبير و الصغير و العجائز والمرضى
يمشون كل تلك المسافة على الاقدام, بعض من كبار السن قد حمل على عربات بدائية تدفع
باليد لكي يصلوا الى نقطة ابتغائهم, المتني روحي لما رأيت.
أجرنا سيارة ثم انطلقنا و عبرنا الحواجز
والسيطرات وسط مخاوف امنية كثيرة, بالاضافة اننا كنا على وشك ان نصطدم بسيارات
اخرى لثلاث مرات, تشاهدنا و صعدت الروح الى انوفنا كما يقال, لكننا لم نمت!
بعد مسافة اربع ساعات وصلنا الى الموصل
الحدباء.
كأن الروح ردت الي برؤية جسور الموصل فوق
دجلة الخالد و شوارعها و احياءها الجميلة
أنا
موصليٌ ما حييتُ وَإِن أٓمُتْ
فوصيتي للناس ان يتموصلوا
وصلت الى بيتي و رأيت أمي و أبي و اخوتي,
مرة اخرى, رغم انني فكرت أنهم قد لا يروني مرة أخرى!
الحمد لله الذي أعادنا مرة أخرى.
كركوك جميلة, و من الجميل أن تسافر لتتغرب
فترة ثم تواجه ظروفا جديدة و تتعلم منها و تصنع ذكريات ستقصها لاولادك فيما بعد
الرحلة كانت من 8 تشرين الاول الى 29 تشرين
الاول اوكتوبر 2014.
الطلاب و هم ينتظرون دورهم للتفتيش في الحاجز للدخول الى كركوك
انا في مدخل الاقسام الداخلية
و دمتم
د محمود فارس الحيالي
1-11-2014